لهذا تقدم الغرب (1) لوزير الأوقاف
لا شك أن الحكمة هي ضالة المؤمن ، يبحث عنها ، ويجتهد في طلبها ، ويسند الفضل فيها إلى أهله ، وأننا لابد أن ننظر في تجارب الآخرين ، فنأخذ منها النافع والمفيد ، ونطرح ما سوى ذلك ، ولا ينبغي أن نكابر فنزعم بالقول دون العمل أننا خير الأمم وسادة البشر ، ناسين أو متناسين أن سيد الخلق محمد (صلى الله عليه وسلم) قد حذرنا من كثرة كغثاء السيل لا غناء فيها ، وأن سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان يقول : من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ، وكان يقول في شأن العجم : والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال وجئنا بغير عمل لهم أولى بمحمد (صلى الله عليه وسلم) منا يوم القيامة .
وإذا نظرنا نظرة متأملة فاحصة متأنية في سر تقدم الغرب وجدنا أسبابًا كثيرة ، وأن هذا التقدم لم يكن عفويًا أو وليد الصدفة ، إنما كان نتاج جهد وعمل شاق ودءوب .
أهم الأسباب :
1- تقديس العمل وقيمته ، فكل ما دعا إليه الإسلام من تقديس العمل والحث عليه تراه واقعًا ملموسًا في حياة الأمم الراقية والمتقدمة ، ولا مجال للمحاباة أو المجاملة في مجال العمل .
لكننا للأسف الشديد تجاهلنا قيمنا الإسلامية ، وأصبح متوسط إنتاج الفرد لدينا لا يقاس ولا يقارن بالمستويات العالمية ، على أن الشخص نفسه إذا سافر إلى دولة أخرى رأيناه يؤدي عمله على الصورة المطلوبة ، وكأنه ليس ذلك الشخص الذي كان يعمل في بلده ، في حين أنه لو عمل بهذا الجد في أي مكان كان لوجد بركة في ماله حتى لو كان قليلا ، لكنها ثقافة تسري هنا أو هناك ، وصدق الشيخ الإمام محمد عبده حين قال ذهبت إلى أوربا فرأيت إسلامًا بلا مسلمين ، وجئت إلى مصر فرأيت مسلمين بلا إسلام .
ولا سبيل إلى النهضة والرقي إلا بالعمل الجاد ، وليس بمجرد العمل بل بإتقانه ، وهذا نبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول: ” إن الله (عز وجل) يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ” ، ويقول (صلى الله عليه وسلم) : ” إذا قامت الساعة وفي يد أحكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها ” ، وقد أمرنا الله ( عز وجل ) بالسعي والعمل ، فقال سبحانه وتعالى : “… فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ” (الملك : 15) .
2- تقديس قيمة الوقت :
لقد أعلى الإسلام من شأن الوقت وقيمته فأقسم الحق سبحانه وتعالى به في أكثر من موضع في كتابه العزيز ، حيث يقول سبحانه : ” والعصر ” ، ” والفجر وليال عشر ” ، ” والضحى والليل إذا سجى ” ، ” والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها ” ، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم ) : ” لا تزول قدم عبد حتى يُسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل به ” .
ومع ذلك كله لا نقدر للوقت قدره ولا نعرف له قيمته ، ولا نلتزم بدقة المواعيد التي أُمرنا بالالتزام بها ، ونتسامح في الفسحة فيها بلا حدود ، بل إن بعضنا لا يكاد يكترث بالمواعيد التي يحددها ولو راجعته أو ناقشته لضاق بك ذرعًا .
غير أن كل المعاني الراقية السامية التي أمرنا الإسلام أن نلتزم بها تراها واقعًا ملموسًا مطبقًا بمنتهى الدقة والحرفية لدى أكثر الغربيين ، وعندما أقول أكثرهم أقول ذلك على سبيل الاحتياط فحسب ، لكن كل من تعاملت معهم في رحلتي إلى باريس كانوا أكثر انضباطًا من عقارب الساعة كما يقولون ، كما أن تقديرهم للوقت الذي يحتاجونه لإنجاز أعمالهم صار مدروسًا ومحددًا بمنتهى الدقة والحرفية والمهنية التي تثير الدهشة والإعجاب لنا ، غير أن الذي يثير الدهشة لديهم هو ألا تكون كذلك ، فقد صار هذا الالتزام طبعًا فيهم .
3- احترام الآخر وثقافته وخصوصيته أيًّا كانت هذه الثقافة وتلك الخصوصية ، وتشعر أن هناك امتلاءً فكريًا وثقافيًا يحول بين الإنسان وبين الفضول أو التلصص على الآخرين أو محاولة اختراق خصوصياتهم أو الخوض في تفاصيل حياتهم أو حتى عموميتها ، وهذا هو منهجنا الإسلامي الذي غفلنا عنه ، ألم يقل نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) : “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ” وقديمًا قالوا من تدخل فيما لا يعنيه سمع ملا يرضيه .
وللحديث بقية في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى